سورة الأنفال - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


{إِذْ يُغَشّيكُمُ النعاس} أي يجعله غاشياً لكم ومحيطاً بكم وهو بدلٌ ثانٍ من إذ يعدكم لإظهار نعمةٍ أخرى، وصيغةُ الاستقبالِ فيه وفيما عُطف عليه لحكاية الحال الماضيةِ كما في تستغيثون، أو منصوبٌ بإضمار اذكُروا، وقيل: هو متعلقٌ بالنصر أو بما في {من عند الله} من معنى الفعلِ، أو بالجعل وليس بواضح، وقرئ {يُغْشيكم} من الإغشاء بمعنى التغشية، والفاعلُ في الوجهين هو الباري تعالى وقرئ {يغشاكم} على إسناد الفعل إلى النعاس وقوله تعالى: {أَمَنَةً مّنْهُ} على القراءتين الأُوليين منصوبٌ على العلية بفعل مترتبٍ على الفعل المذكور أي يغشيّكم النعاسَ فتنعَسون أمناً كائناً من الله تعالى لا كَلالاً وإعياءً أو على أنه مصدرٌ لفعل آخرَ كذلك أي فتأمنون أمناً كما في قوله تعالى: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} على أحد الوجهين، وقيل: منصوبٌ بنفس الفعلِ المذكورِ، والأَمَنةُ بمعنى الأمان وعلى القراءة الأخيرة منصوبٌ على العِلّية بـ {يغشاكم} باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدرٌ لفعل مترتبٍ عليه كما مر، وقرئ {أمْنةً} كرحمة {وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السماء مَاءً} تقديمُ الجار والمجرور على المفعول به لما مر مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً له، فعند ورودِه يتمكّن عندها فضلُ تمكنٍ، وتقديمُ عليكم لما أن بيانَ كونِ التنزيلِ عليهم أهمَّ من بيان كونه من السماء وقرئ بالتخفيف من الإنزال {لّيُطَهّرَكُمْ بِهِ} أي من الحديث الأصغرِ والأكبر.
{وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} الكلامُ في تقديم الجارّ والمجرور كما مر آنفاً، والمرادُ برجز الشيطانِ وسوستُه وتخويفُه إياهم من العطش. روي أنهم نزلوا في كَثيب أعفرَ تسوخُ فيه الأقدامُ على غير ماءٍ وناموا فاحتلم أكثرُهم وقد غلب المشركون على الماء فتمثل لهم الشيطانُ فوسوس إليهم وقال: أنتم يا أصحابَ محمدٍ تزعُمون أنكم على الحق، وإنكم تصلّون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطِشتم ولو كنتم على الحق ما غلبكمِ هؤلاءِ على الماء، وما ينتظرون بكم إلا أن يَجهدَكم العطشُ فإذا قطَع أعناقَكم مشَوا إليكم فقتلوا مَنْ أحبّوا وساقوا بقيتَكم إلى مكة فحزِنوا حُزناً شديداً وأشفقوا فأنزل الله عز وجل المطرَ فمُطِروا ليلاً حتى جرى الوادي فاغتسلوا وتوضأوا وسَقَوا الرِكابَ وتلبّد الرملُ الذي كان بينهم وبين العدوِّ حتى ثبتت عليه الأقدامُ وزالت وسوسةُ الشيطانِ وطابت النفوسُ وقوِيَت القلوبُ وذلك قوله تعالى: {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} أي يقوّيها بالثقة بلُطف الله تعالى فيما بعدُ بمشاهَدة طلائعِه {وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام} فلا تسوخ في الرمل، فالضميرُ للماء كالأول ويجوز أن يكون للربط فإن القلبَ إذا قوِي وتمكّن فيه الصبرُ والجَراءةُ لا تكاد تزِلُّ القدمُ في معارك الحروب.


وقوله تعالى: {إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى الملئكة} منصوبٌ بمضمر مستأنفٍ خوطب به النبيُّ عليه الصلاة والسلام بطريق التجريدِ حسبما تنطِق به الكافُ لِما أن المأمورَ به مما لا يستطيعه غيرُه عليه الصلاة والسلام فإن الوحيَ المذكورَ قبل ظهورِه بالوحي المتلوِّ على لسانه عليه الصلاة والسلام ليس من النعم التي يقف عليها عامةُ الأمةِ كسائر النعمِ السابقة التي أُمروا بذكر وقتِها بطريق الشكرِ، وقيل: منصوب بقوله تعالى: {وَيُثَبّتَ بِهِ الاقدام} فلا بد حينئذٍ من عود الضميرِ المجرورِ في به إلى الربط على القلوب ليكون المعنى: ويثبتَ أقدامَكم بتقوية قلوبِكم وقتَ إيحائِه إلى الملائكة وأمرِه بتثبيتهم إياكم وهو وقتُ القتال، ولا يخفى أن تقييدَ التثيبتِ المذكورِ بوقت مبْهمٍ عندهم ليس فيه مزيدُ فائدةٍ، وأما انتصابُه على أنه بدلٌ ثالثٌ من إذ يعدكم كما قيل فيأباه تخصيصُ الخِطاب به عليه الصلاة والسلام مع ما عرفتَ من أن المأمورَ به ليس من الوظائف العامةِ للكل كسائر أخواتِه. وفي التعرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من التنويه والتشريفِ ما لا يخفى، والمعنى اذكُر وقتَ إيحائِه تعالى إلى الملائكة {إِنّى مَعَكُمْ} أي بالإمداد والتوفيقِ في أمر التثبيتِ فهو مفعولُ يوحي، وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراءِ الوحي مُجراه. وما يُشعِر به دخولُ كلمةِ مع من متبوعية الملائكةِ إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورةً فلهم الأصالةُ من تلك الحيثيةِ كما في أمثال قولهِ تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} والفاءُ في قوله تعالى: {فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إمدادَه تعالى إياهم من أقوى موجباتِ التثبيتِ، واختلفوا في كيفية التثبيتِ فقالت جماعةٌ: إنما أُمروا بتثبيتهم بالبِشارة وتكثيرِ السوادِ ونحوِهما مما تقوى به قلوبُهم وتصِحّ عزائمهُم ونياتُهم ويتأكد جِدُّهم في القتال وهو الأنسبُ بمعنى التثبيتِ وحقيقتِه التي هي عبارةٌ عن الحمل على الثبات في موطن الحربِ والجِدّ في مقاساة شدائد القتال. وقد روي أنه كان الملَكُ يتشبّه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول: إنى سمعتُ المشركين يقولون: والله لئن حَملوا علينا لننكَشِفنّ ويمشي بين الصفين فيقول: أبشِروا فإن الله تعالى ناصرُكم وقال آخرون: أُمروا بمحاربة أعدائِهم وجعلوا قولَه تعالى: {سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} تفسيراً لقوله تعالى: {إِنّى مَعَكُمْ} وقولَه تعالى: {فاضربوا} الخ، تفسيراً لقوله تعالى: {فَثَبّتُوا} مبيناً لكيفية التثبيت. وقد روي عن أبي داود المازنى رضي الله عنه وكان ممن شهد بدراً أنه قال: اتبعتُ رجلاً من المشركين يوم بدر لأضرِبَه فوقعتْ رأسُه بين يديَّ قبل أن يصِلَ إليه سيفي. وعن سهل بن حُنيفٍ رضي الله عنه أنه قال: لقد رأيُتنا يوم بدر وإن أحدَنا يُشيرُ بسيفه إلى المشرك فتقعُ رأسُه عن جسده قبل أن يصِلَ إليه السيفُ.
وأنت خبيرٌ بأن قتلَهم للكفرة مع عدم ملاءمته لمعنى تثبيتِ المؤمنين مما لا يتوقف على الإمدادِ بإلقاء الرعبِ فلا يتجه ترتيبُ الأمر به عليه بالفاء وقد اعتذر الأولون بأن قوله تعالى: {فَثَبّتُواْ الذين ءامَنُواْ} تلقيناً للملائكة ما يثبّتونهم به، كأنه قيل: قولوا لهم قوْلي: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعبَ فاضرِبوا} إلخ فالضاربون هم المؤمنون، وأما ما قيل من أن ذلك خطابٌ منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوينِ فمبناه توهُّمُ ورودِه قبل القتالِ وأنّى ذلك والسورةُ الكريمة إنما نزلت بعد تمامِ الوقعة، وقوله تعالى: {فَوْقَ الاعناق} أي أعاليَها التي هي المذابح أو الهامات {واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} قيل: البنانُ أطرافُ الأصابع من اليدين والرجلين، وقيل: هي الأصابعُ من اليدين والرجلين وقال أبو الهيثم البنان: المفاصلُ، وكلُّ مَفصِلٍ بنانه وقال ابن جريج والضحاك: يعني الأطرافَ أي اضرِبوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها. وقيل: المرادُ بالبنان الأداني وبفوق الأعناق الأعالي والمعنى فاضرِبوا الصناديدَ والسَّفَلةَ وتكريرُ الأمر بالضرب لمزيد الاعتناءِ بأمره و{منهم} متعلقٌ به أو بمحذوف وقع حالاً مما بعده.


{ذلك} إشارةٌ إلى ما أصابهم من العقاب، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد درجتِه في الشدة والفظاعةِ، والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحدٍ ممن يليق بالخطاب، ومحلُّه الرفعُ على الابتداء وخبرُه قوله تعالى: {بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} أي ذلك العقابُ الفظيعُ واقعٌ عليهم بسبب مُشاقّتِهم ومغالبتِهم مَنْ لا سبيلَ إلى مغالبته أصلاً، واشتقاقُ المشاقةِ من الشِّق لِما أن كلاًّ من المُشاقَّين في شِقّ الآخر كما أن اشتقاقَ المُعاداةِ والمُخاصمة من العَدْوة والخَصْم أي الجانب لأن كلاًّ من المتعاديَيْن والمتخاصمَين في عَدوةٍ وخصمٍ غيرِ عدوةِ الآخر وخصمِه {وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ} الإظهارُ في موضع الإضمار لتربية المهابةِ وإظهار كمالِ شناعة ما اجترأوا عليه والإشعارِ بعلة الحُكم. وقوله تعالى: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} إما نفسُ الجزاءِ قد حُذف منه العائد إلى {مَنْ} عند من يلتزمه، أي شديدُ العقاب له، أو تعليلٌ للجزاء المحذوف أي يعاقبْه الله فإن الله شديدُ العقاب، وأياً ما كان فالشرطيةُ تكملةٌ لما قبلها وتقريرٌ لمضمونه وتحقيقٌ للسببية بالطريق البرهاني، كأنه قيل: ذلك العقابُ الشديد بسبب مشاقّتِهم لله تعالى ورسولِه وكلُّ من يشاقق الله ورسولَه كائناً مَنْ كان فله بسبب ذلك عقابٌ شديدٌ فإذن لهم بسبب مشاقّتِهم لهما عقابٌ شديد، وأما أنه وعيدٌ لهم بما أعد لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا كما قيل فيرده ما بعده من قوله تعالى: {ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ للكافرين عَذَابَ النار} فإنه مع كونه هو المسوقَ للوعيد بما ذُكر ناطقٌ بكون المرادِ بالعقاب المذكورِ ما أصابهم عاجلاً سواءٌ جُعل ذلكم إشارةً إلى نفس العقابِ أو إلى ما تفيده الشرطيةُ من ثبوت العقابِ لهم، أما على الأول فلأن الأظهرَ أن محلَّه النصبُ بمضمر يستدعيه قولُه تعالى: {فَذُوقُوهُ}، والواو في قوله تعالى: {وَأَنَّ للكافرين} إلخ بمعنى مع فالمعنى باشروا ذلكم العقابَ الذي أصابكم فذوقوه عاجلاً مع أن لكم عذابَ النارِ آجلاً، فوضْعُ الظاهر موضعَ الضميرِ لتوبيخهم بالكفر وتعليلِ الحُكم به، وأما على الثاني فلأن الأقربَ أن محله الرفعُ على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، وقولُه تعالى: {وَأَنَّ للكافرين} إلخ معطوفٌ عليه، والمعنى حُكمُ الله ذلكم، أي ثبوتُ هذا العقابِ لكم عاجلاً وثبوتُ عذابِ النارِ آجلاً، وقوله تعالى: {فَذُوقُوهُ} اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوفَيْن للتهديد، والضميرُ على الأول لنفس المشارِ إليه وعلى الثاني لما في ضمنه، وقد ذُكر في إعراب الآيةِ الكريمةِ وجوهٌ أُخَرُ، ومدارُ الكلِّ على أن المرادَ بالعقاب ما أصابهم عاجلاً والله تعالى أعلم، وقرئ بكسر إن على الاستئناف.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8